مشرف
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: سوريا دمشق
المشاركات: 5,840
شكراً: 22,320
تم شكره 18,769 مرة في 4,996 مشاركة

شام : "هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر"
شام
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ , و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر . . وإنما أظلم دارنا.
و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكيّ, و تبدأ سيمفونية الضوء و الظّل و الرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ.
.و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء..
و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحريّة مطلقة,
و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها..
و عشرون صحيفة فُلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كلُّ زّر فّلٍ عندها يساوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها.. بكتْ.. و شكتنا إلى الله..
طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي, كان الصديق, و الواحة, و المشتى, و المصيف..
أستطيع الآن,أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه,وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً.. واحدة.. و أسماك بركته واحدةً.. واحدة.. و سلالمه الرخاميّة درجةً.. درجة..
أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلاثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله, و علبة تبغه, و جريدته..
و على صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..
هذا البيت- المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة و قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي, تعلَّمتها في البيت- المظّلة الذي حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك, و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الدبلوماسي نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتٍ كثيرة أخرى,
إلاَّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي و حنجرتي, و ثيابي. و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته
كلَّ ما في أحواض دمشق, من نعناعٍ, و فلّ, و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق, ونمت معها على سريرٍ واحد
شكراً
الشاعر السوري نزار قباني