انخفاض سعر النقد

وتابع د. جميل إنه إذا أردنا أن نبحث بالتفصيل بأسباب التضخم في سورية فهذا يحتاج إلى بحث اختصاصي معمق، ولكن للوهلة الأولى من الواضح تماماً الآن أن هناك سبباً عضوياً للتضخم هو: طريقة الحساب التي تسبب مشكلة مستمرة في الاقتصاد السوري؛ وأضاف د. جميل إن ما زاد الطين بلة كان تراجع الإنتاج السلعي الحقيقي من جهة، مع الحفاظ على الكتلة النقدية السابقة من الجهة الأخرى، وهذا ما أدى عملياً (حسب د. جميل) إلى انخفاض سعر النقد، لأن التضخم في النهاية يعني انخفاض قيمة العملة والحل الوحيد لمكافحة التضخم هو رفع الإنتاج السلعي، ولكن هذا غير ممكن عندما يذهب كم هائل من الأرباح خارج الدورة الاقتصادية لأن هذا يمنع الاستثمار في الداخل، وهذا يعني انخفاض وتائر النمو العامة وانخفاض الإنتاج الحقيقي في قطاعات الإنتاج المادي وتراجعاً في الصناعة والزراعة وتراجعاً في القدرة الشرائية للأجور المنخفضة أصلاً، وهذه الأمور مجتمعة تؤدي إلى استفحال مشكلة التضخم.
توزيع الدخل الجائر
وبالنسبة لتضارب الأرقام قال د. جميل: صحيح أن هناك تضارباً في نسب التضخم المعلنة بين إحصاءات الجهات الرسمية السورية وإحصاءات الجهات الدولية ولكن هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن طريقة الحساب خاطئة وعلى أن هناك مشكلة في رقم التضخم، وغياب رقم حقيقي يحدد التضخم في سورية هو أمر لا يسمح بمعالجة المشكلة كما أن تخفيض الأرقام لا يزيل المشكلة أبداً وإنما يعقدها، ومن جهة أخرى فإن معظم الباحثين الاقتصاديين ومعظم التقارير الاقتصادية ترجح أن التضخم في سورية ليس أقل من 20 بالمئة سنوياً، وهذه مشكلة كبيرة ذات انعكاسات على المستوى الاجتماعي بالتأكيد، ففي ظل نمط جائر من توزيع الدخل لمصلحة الأرباح- والأجور طبعاً لا تتخطى 25 بالمئة من الدخل الوطني- فإن انخفاض قيمة العملة يعني ضرب المستوى المعيشي لأصحاب الدخل المحدود الذين يعانون أصلاً من تراجع مستواهم المعيشي، ومن شأن التضخم أن يزيد من الضرر بهذا المستوى للشرائح الأكبر في المجتمع السوري. ولذلك فقد صدق من قال: إن التضخم ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء، ويمكن القول: إن انعكاسات التضخم على المستوى الاجتماعي في سورية هي انعكاسات كارثية، لأنه عملياً حتى بوجود معدلات نمو فإن وجود التضخم المرتفع يؤدي إلى «تصفير» أرقام النمو حتى إذا كانت مرتفعة!.
التضخم لا يشجع الاستثمار
ورأى د. جميل أن هناك حقيقة لابد من الوقوف عندها، وهي أن الاستثمار عموماً والاستثمار الخارجي تحديداً لا يجد في انخفاض مستوى المعيشة وانخفاض الأجور عوامل مشجعة لتوظيف أمواله كما يشاع وإنما العكس هو الذي يشجع، فالنسبة للمستثمر الحقيقي فإنه يبحث عن الاستثمار في قطاعات الإنتاج الحقيقي أي في إنتاج السلع، ويهمه في هذه الحالة أن يكون هناك طلب في منطقة الإنتاج السلعي، أما إذا كانت الأجور منخفضة فهذا يعني للمستثمر أن الطلب سيكون منخفضاً بالنتيجة، وهذا لا يشجع المستثمرين على توظيف أموالهم أبداً، فصحيح أن العالم قرية واحدة ولكن المستثمر يفضل أن يقلص من تكاليف النقل لتصريف منتجاته ناهيك عن علاقة استقرار العملة بالعملية الإنتاجية وأثرها في استقرار الاستثمارات، ومن جهة أخرى فإن الأجور المنخفضة بسبب الضخم تؤدي عملياً إلى هز الثقة بالاستقرار الاجتماعي واحتمالاته اللاحقة بما يحمله ذلك من أخطار على العملية الإنتاجية المباشرة وهذه أمور تساعد على نبذ الاستثمار وليس على تشجيعه.
الحل بإعادة النظر في طريقة الحساب
وبالنسبة للأدوات الفاعلة في كبح التضخم رأى د. جميل أن المضي بها عملياً يتطلب إعادة نظر جذرية بطريقة الحسابات القومية وهي عملية مرهقة ومضنية ولكن لابد منها إن آجلاً أم عاجلاً، فبالاستناد إلى طريقة الحساب الصحيحة لحساب الدخل الوطني على أساس الإنتاج الحقيقي (وهي هنا طريقة نظرية القيمة- العمل) يمكن التوجه إلى كبح التضخم عبر التحكم بالكتلة النقدية، أما الآن وحتى لو ظن البعض أنهم يتحكمون بالكتلة النقدية فإنهم غير قادرين عملياً على ذلك لأن نقطة الانطلاق التي يستندون إليها خاطئة بالأصل (وهي هنا حساب الكتلة السلعية)، وبما أن سبب التضخم هو خروج كتلة نقدية هامة من التداول في عملية إعادة الإنتاج بسبب نمط توزيع الثروة، فإن جعل التناسب في العلاقة بين الأجور والأرباح منطقياً وعقلانياً يساهم في كبح جماح التضخم أيضاً، أي إن للفساد أيضاً دوره في ازدياد التضخم، كما يجب رفع النمو الحقيقي في الإنتاج السلعي لتحقيق بعض التوازن بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية في الاقتصاد، واليوم، ونتيجة للأزمة العالمية وانهيار النظرية النقدية (التقليدية) في الاقتصاد، نحن أمام استحقاق معرفي جديد يدفعنا إلى المضي نحو الأصل وإعادة النظر بطريقة حساب الدخل القومي كلها، فقد أثبتت الأزمة العالمية أن النظرية النقدية التي يدار الاقتصاد العالمي على أساسها قد انهارت، وهذا يفسر ارتفاع الأصوات في الغرب حول إخفاق علم الاقتصاد المستند إلى النظرية النقدية.
الحل الجزئي في المكافآت
أما د. عابد فضلية فيرى أن المشكلة تكمن بشكل محدد في أن الدخول والأجور ثابتة ولم تزدد خلال الفترة الماضية على حين الأسعار ارتفعت، أي هناك ضعف بالقدرة الشرائية، ولكن هناك مشكلة أخرى (وهي الأهم والأعقد حسب د. فضلية) وهي أن الدولة وحتى أصحاب الأعمال في القطاع الخاص لا يمكنهما حالياً زيادة الرواتب والأجور بما يتوازى مع مستوى الأسعار المرتفع بسبب البطء بالعجلة الاقتصادية، ويرى د. فضلية أن المشكلتين مرتبطتان ببعضهما عضوياً وللتغلب عليهما يجب تحريك العجلة الاقتصادية، ويوضح د. فضلية أنه رغم بساطة القول بضرورة تحريك العجلة الاقتصادية لكن هذا الأمر في الواقع عبارة عن عملية معقدة جداً تحتاج إلى تعاون وجهود كبيرين وتحتاج إلى فعل وعمل على المستوى الحكومي وعلى مستوى القطاع الخاص، والمشكلة في الحقيقة هي عالمية وإقليمية ومحلية في آن معاً، ولكن يمكن التقليل من حدة المشكلة لأن حلّها يحتاج إلى وقت طويل نسبياً فالزمن في عمر الاقتصاد يختلف عن الزمن في عمر الإنسان. ولتحريك العجلة الاقتصادية بغية تقليل حدة المشكلة يمكن اللجوء إلى زيادة الأجور لزيادة القدرة الشرائية لتحريك السوق كبداية لتحريك العجلة الاقتصادية بحيث تزداد الأرباح والإنفاقات والاستهلاك.. إلخ، والنصيحة اليوم لقطاع الأعمال هي أن يضحي بنسب من الأرباح ويلجأ إلى المخاطرة الإيجابية وعدم الخوف من المبادرة في تنشيط المشروعات الاستثمارية من أجل تنشيط الحركة الاقتصادية لأن ذلك سينعكس إيجاباً على قطاع الأعمال الخاص تحديداً وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، وببساطة اليوم النصيحة هي: «أعطوا الناس أموالاً لينفقوها»، فعندما تدفع الحكومة والمنشآت الخاصة مكافآت مالية في المناسبات ومنها رمضان فإن هذا يعود مباشرة بالخير على الاقتصاد، وليس بالضرورة أن يكون الحل برفع الرواتب والأجور بنسبة 15 إلى 20 بالمئة مثلاً، فالمكافآت التي يتلقاها أصحاب الدخل المحدود سينفقونها بشكل كامل وفوراً، والجميع يعلم أن أصحاب الدخل المحدود هم الشريحة الأكبر في المجتمع، وعندما يتلقى هؤلاء مكافأة من الجهتين العامة والخاصة سينعكس هذا الأمر مباشرةً بالإيجاب على العجلة الاقتصادية.